التجربة الصوفية والنزعة الإنسانية في كتابات الأمير عبد القادر

 

أ.د. بوعرفة عبد القادر

التجربة الصوفية والنزعة الإنسانية في كتابات الأمير عبد القادر

توزعت التّجربة الصوفية عند الأمير عبد القادر بين التّصوف العملي في شبابه وكهولته، وبين التصوف الاتحادي لا الحلولي (وحدة الوجود) في شيخوخته، فالأول فرضه مقام الجهاد والفعل السياسي، والثاني فرضه مقام الهجرة إلى الله والبعد عن الأوطان. وعليه، يظهر تصوف الأمير في المرحلة الدمشقية بالخصوص، حين جاور شيخه الروحي ابن عربي، وجاوره جوارين جوار الحي للمكان، ثم جوار الميت للقبر (جبل قسيون).

لا يمكن فصل الأمير عبد القادر عن الشيخ محي الدين ابن عربي، فلقد أثر فيه تأثيرا كبيرا، خاصة في مجال المعرفة ومحبة الإنسانية والتفكير فيها.

لقد كان ابن عربي من بين أهم أعلام الفكر الصوفي في مجال النزعة الإنسانية، وأكثرهم دفاعا عن الإنسان الحيواني الذي لم يصل بعد إلى مصاف الكمال.  يعتقد كل من ابن عربي والأمير أن الإنسان أشرف الموجودات حتى في حوانيته، ويزدادا شرفا وكمالا كلما انتقل من حال الحيوانية إلى حال الإنسانية، أو من حالة الآدمية إلى حالة الرسولية، فكل إنسان رسول ذاته إذا وعى الحق سبحانه وتعالي، وما الرسل عبر التاريخ إلا الوسيلة التي يستنطق بها الله إنسانية الإنسان المدفونة تحت براثن جهله وحبه للمادة. وشرف الإنسان ليس في طريقة خلقه بل فيما أوتي من الفهم والتعقل، فعندما خلق الله أدم على صورته كان القصد التميز بين مقام الإنسانية والآدمية: ” خلق الله الإنسان، مختصرا شريفا جمع فيه معاني العالم الكبير وجعله نسخة جامعة لما في العالم الكبير، ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء وقال فيه رسول الله: إن الله خلق آدم على صورته…. فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى والذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوان كلها في ذلك”.

إن الأمير عبد القادر من المنطلق السابق كان يمارس مفهوم الإنسانية من خلال التجلي الصوفي، فالإنسان إنسان بما وضعه الله فيه فيض روحه، وما الاعتقاد والتدين إلا من إرادة الإنسان، ولذلك على العاقل العارف أن يعامل الإنسان من هذا الباب، وكان الأمير يستشهد دوما بأبيات ابن عربي:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة  **   فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبــة طائف    **   وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحـبّ أين توجهت  **  ركائبي فالحبّ ديني وإيمانـي

إن هذا الحب الكبير الذي يحمله الفكر الإسلامي للإنسان جعل الأمير يزور الكنائس ويجالس رهبانها إبان إقامته في فرنسا، ويتأسف عن اعتقاده السابق الناجم عن قلة عرفان ونقص في البرهان، فالكنيسة والمعبد والمسجد مجرد أمكنة وصور عظمتها فيما تُغدقه على الإنسان من سعادة ومعرفة الحق. إن كل من يقرأ الأبيات السابقة أو يسمعها يشعر بتلك النزعة الإنسانية المفتوحة التي تفيض بالحب والاحترام للبشر.

لقد أثر ابن عربي في مواقف الأمير أثناء الجهاد، فرعايته للأسرى بنفسه وحرصه على حياتهم وسلامتهم نستشفها من تأويلات أستاذه ابن عربي حين قال : ” أرحم من وافق الحق ومن خالفه رحمة له، فإن ذلك قسمة، فإن الكافر إذا رحم المؤمن خفف الله عنه، وإذا رحم المؤمن الكافر وفى الله له، الكل خلق الله ومضاف إليه فتعظيم خلقه تعظيمه، فطوبى لمن رحم خلقه، ولا يلزم من رحمهم أن يلقي إلى أعداء الله بالمودة. أرحمهم من حيث لا يعلمون”.

هكذا كان سلوك الأمير، الرحمة والعفو، ولين الجانب ورعاية خلق الله بالرغم من كفرهم وغزوهم لبلاده. وتدبير شأن الخلق لما تتطلبه صفة الخلافة، لأن الخليفة ليس الحاكم بأسباب السياسة ولكن الخليفة من اكتملت إنسانيته، وحاكى الرسول محمد لأنه أكمل البشر منذ بدء الخليقة.

يفرض التصوف الغوص في ماهية الحقيقة، حيث يُفرق الأمير بين نوعين من الحقيقة، الحقيقة التاريخية التي تتولد من تجارب البشر وعاداتهم وتصوراتهم، والحقيقة الإلهية المتعالية عن الأحكام التاريخية، فالحقيقة التاريخية يكتنفها التعصب والتطرف، ويقودها الوهم والجهل، وأكبر منتج لها التقليد والمحاكاة، فالحقيقة التي تُبنى على أساس النماذج الجاهزة هي أكبر معقل للتفرقة بين الناس، وأسهل طريقة لاستعباد الناس بعضهم بعضا.

أما الحقيقة الإلهية المتعالية فهي تجمع ولا تفرق، لأن الناظر والمتأمل وفق أصول العقل يدرك الحقيقة الإلهية في كليات الحقيقة التاريخية، فليس هناك خلاف بين الأديان على مستوى التوحيد، فكل الأديان السماوية تؤمن بالله الواحد، لكن نشأ الخلاف بفعل الأحكام التاريخية التي تغذت بفعل التاريخ وحمولاته المعرفية والإيديولوجية.

إن الحقيقة الإلهية هي ذلك الإجماع الإنساني حول موضوع ما، فمحبة الصدق وكره الغدر لا يختلف فيها أحد.

إن الصراع الديني والطائفي لا مبرر له حين يرى العاقل أن الغاية من التدين هو معرفة الله، فالمتدين الذي أمن بالله وفق مبدأ التقليد والوراثة الاجتماعية لا يمكن أن يكون متسامحا ومحبا لأخيه الإنسان، أما الذي آمن بالله بعقله وقلبه يستوي عنده الناس أجمعين، فكلهم إنسان وجب حبه واحترامه، وحُرم قتله وإفساده.

إن الأمير أدرك معنى مدلول قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. إن الحقيقة الإلهية تكمن في الكلمة التي أساسُها عدم استعباد البشر لبعضهم بعضا، وعبادة خالق كل البشر.

إن الحقيقة الإلهية تتضايف مع الفطرة الإنسانية تضايفا دلاليا، فالحقيقة علامة من علامات الفطرة السَّليمة التي فطر الله عليها آدم وبنيه، ولذلك يُمَيِّزُ الإنسان بين الخير والشر، الجمال والقبح، الصدق والكذب… وتكاد تكون أحكام البشر عبر تاريخها متجانسة ومتقاربة لأن الحقيقة عامل توحيد بالرغم من إكراهات التاريخ.

إذا كان بعض الناس ينتقد الأمير لكونه دخل المحفل الماسوني، فالعلة تكمن في اعتقاده أن الناس إذا اجتمعوا حول الحقيقة الإلهية فليس هناك مُسَوّغ لوجود الطوائف والمذاهب، ما دمت الحقيقة تتجه نحو إثبات الله وقيمه السَّامية أولا، وتكرم الإنسان وتحترمه ثانيا.

ومن خلال تلك الآيات الدالة على قدسية الإنسان استنتج علماء الإسلام عظمة النفس البشرية ومدى حرمتها عند الله ، فيكفي القرآن ذكرا أن آية واحدة منه أسست للإنسانية المفتوحة، فقوله تعالي: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون}، فالآية تدل دلالة قاطعة أن نفسا واحدة تساوى ما لا نهاية من الأنفس في الحالتين، وأن الإنسان الكريم هو الذي يُحي لا الذي يقتل.

عمل الأمير من خلال كتاب “المواقف” أن يحاكي كبار المتصوفة في القول العرفاني، وأن يُقدم نظرته للوجود ووحدته، فهو يعتقد أن “وحدة الوجود” من صلب الإسلام ذاته، وليست مجرد مقولة صوفية، ويستدل بقوله تعالى: {هو معكم أين ما كنتم}، وهذا يدل أن الله يتجلى في أفعال عباده تجلي الخالق البارئ.

ويرى الأمير أن الذَّات البشرية هي نفحة من روح الله، وأن هذه النفخة تستوجب أن الإنسان فيه من الذات الإلهية قبس وفرقد، عبر عنه في قوله:

أنا حقّ أنا خلق

أنا ربّ أنا عبد

أنا عرشٌ أنا فرشٌ

وجحيمٌ أنا خلد

أنا ماءٌ أنا نارٌ

وهواء أنا صلد

أنا حقّ أنا خلق

أنا ربّ أنا عبد

أنا عرشٌ أنا فرشٌ

وجحيمٌ أنا خلد

أنا ماءٌ أنا نارٌ

وهواء أنا صلد

أنا كمٌّ أنا كيف

أنا وجدٌ أنا فقد

أنا ذاتٌ أنا وصفٌ

أنا قربٌ أنا بعد

كل كون ذاك كوني

أنا وحدي أنا فرد

إن وحدة الوجود عند الأمير لا تُعرف خارج ثنائية الظاهر والباطن، فأهل الظاهر لا يدركون حقيقة “وحدة الوجود” نظرا لوقوفهم على رسم اللغة، وتعلقهم بظاهرية الحرف، بينما أهل الباطن يدركون أن الظاهر ما هو إلا صورة وأن الحقيقة تتجلى في كل شيء، يقول في هذا الفن:

أردّدُ طرفي في الرسوم فلا أرى

سوى من به كانت رسوما وآثارا

وأسألها عنه فكلّ أجابني

بأنه ما رآه يوما ولا أدرا

فقلت لهم هذا عجيب فإنني

ما أبصرته إلا بكم متظاهرا

عرفته منكم ثم زاد في عرفاننا

بأنني إياه ولكن منكرا

عجبت له كيف اختفى بظهوره

فعيني حجابه الظهور ولا انفرا

ألا فأعجبوا من ظاهرٍ في بطونه

ومن باطن لا زال باد وظاهرا

إن تصوف الأمير هو تصوف رجل حارب وجاهد، وعاش تجارب الأسر والعزلة، ثم عاش تجربة الاغتراب، وحري برجل عايش كل هذه الأحوال أن يكون تصوفه تصوفا يجمع بين الفعل والذّوق.