ثجديث : ثِلْلِي (الحرية)

 

الحر لا يرضى الذل والمهانة، ولا يقبل الظلم والاستعباد. ولما كان أجدادنا من الأحرار الشرفاء، انتفضوا وثاروا ضد الدخيل الفرنسي الذي أراد أن يدوس كرامتهم، ويُشتِّت صفوفهم، ويعبث بقيمهم ومبادئهم، ويسلبهم هويتهم.

عزموا على المقاومة والمحافظة على مجدهم وعِزِّهم، فشحذوا الهمم نحو المعالي كبيرا وصغيرا، رجلا وامرأة، فما تركوا بقعة إلا وسقوها من دمائهم الزكية، وما تركوا جبلا إلا وحفروا فيه خطاهم، ولا واديا إلا وشقّوا فيه طريقا ليتركوا فيه بصمة وأثرا.

باسم الله انطلقوا وبالله أكبر ثبتوا وصمدوا، اشتعلت في أفئدتهم شعلة حب الوطن فزلزلت الأعداء بلهبها وهزَّت مرقدهم. تسلّحوا بالإيمان والشجاعة لا بالمدفع والدبابة، استمدوا قوتهم من صلابة الصخور ومن شموخ الجبال، رعدوا فأسمعوا العالم دوِّيُ صرختهم فانحنى لهم العدو والصديق إجلالا واحتراما، لأنهم بنوا مجدهم وحافظوا عليه ورفعوا هامتهم بكل فخر واعتزاز.

علموا أن شرفهم هو وطنهم والشرف عظيم لا يستهان به، فإذا اُنتُزِعت من الوطن سيادته ومن الشعب هويته، فلا قيمة لحياتهم ولا عبرة لكبريائهم وتضحياتهم. علموا أن المجد صناعة جماعية فجمعوا شملهم وروَّضوا أنفسهم على الإتحاد والتلاحم من أجل مقاومة الطغيان ورد العدوان، رفضوا الركوع والعيش في الضلال وتحت الاحتلال، صمّموا على الحياة بشرف أو الموت من أجل الشرف، فرخّصوا نفوسهم وباعوا أرواحهم ودماءهم من أجل الوطن والكرامة، كانوا كالأسود الضارية في ساحات الوغى، يتقدمون وأبدا لا يتراجعون مهما حمي الوطيس.

استظلوا براية الإيمان، فأعزّهم الله في الحياة وخلّد ذكراهم بعد الممات. كانوا، وهم يواجهون الموت، يتشجَّعون ويتذاكرون أنه من عاش استحق وسام الشرف والشجاعة، ومن حاز الشهادة رُشَّ بمسك الجنة، ومن جملة ما أنشدوا:

مَا مُوثَغْ يَاكْ ذاَفْحلِي أْلْجْنّْث اَرذاتْسكْشْمَغْ

لْمَلاَيْكَاثْ أَذْسَغَرْثْنْتْ فْلِي أُوذْمْ نَرْسُولْ أَرذَثْزْرَغْ

تعلّقوا بالوطن فلما استنجد بهم هبوا لنداء الواجب النبيل بإرادة من فلاذ، لم يتوان أحد في قلبه ذرة شرف وغيرة على الوطن والحق. وثبوا وثبة الرجل الواحد وزأروا زأرة الأسد الجريح حتى وَجِست منهم خيفةً فرنسا التي شقّت البحار بسفنها، وغمّمت السماء بطائراتها، وحجبت الأرض بدباباتها، فرّت منهم بعد أن يئست من تحقيق مناها بتخاذلهم وتنازلهم عن دينهم وهويتهم.

تراجعت عن طموحاتها ومشاريعها في أرضهم بعد أن فهمت وتيقنت أن روح الجهاد والدفاع عن الوطن بالنفس والنفيس إنما يسري في عروقهم، كيف لا وقد رضعوا حب الوطن بدل اللبن، نشؤوا في كنف العز وترعرعوا في ظل الأنفة، تربوا على الدين وتغذوا من مبادئه وفقهوا معنى أن يحيا المرء عزيزا ويموت عزيزا دون عرضه ودينه.

أدركوا بأن الذود عن الوطن إنما هو من صميم الوطنية وهو أصل من أصول الإسلام الذي علّمهم حب هذا الوطن والإخلاص له في السر والعلن. قدّسوا الوطن وقدّسوا وحدته، وأبوا إلا أن تكون الجزائر الثائرة مهد الأسود وأرض الأمجاد والبطولات. لقد صدق فيهم قول الشاعر:

ونفس الشــريف لـهــا غايتان

ورود المنايــــــــا ونيل المنى

أرى مقتلي دون حقي السليب

ودون بلادي هـــــــو المبتغى

د. سعيد بويزري / عضو المجلس الإسلامي الأعلى