المجلس الإسلامي الأعلى

الدكتور بوعبد الله غلام الله

ربع قرن من مسيرة المجلس الإسلامي الأعلى

إن أشد ما ابتهج به المجتمع الجزائري غداة استعادة الجزائر حريتها واستقلالها سنة 1962 كان هو الإسلام، والإسلام لم يكن غائبا عن الشعب الجزائري طيلة حكم الاستعمار الفرنسي الظالم، وإنما كان يتشوف الشعب الجزائري إلى أن يرى الحكم الذي يرعى شؤونه ويدبر أمر البلاد يكون بيد أبناء الجزائر بعد أن تخلص من حكم المعتدين الظالمين. 

وهكذا فقد أعلنت الحكومة الوطنية منذ الوهلة الأولى للاستقلال أن الإسلام دين الدولة، فأبهجت بهذا القرار الحاسم قلوب الجزائريين وبه قطعت الدولة الوطنية كل أمل لمن كان يتربص بالإسلام ليستبدل به شعارات زائفة مثل الاشتراكية والحداثة والعصرنة….

وما كاد ينقضى عقد ونصف على استقلال الجزائر حتى  شاهدنا تلك النبرات التي انطلقت بعبارات القيم الاشتراكية والأخلاق الاشتراكية وكأن مبادئ الاسلام وأخلاق الاسلام قد لفها من الغموض والتشويه ما يفرض عليها أن تلبس ثوب الاشتراكية حتى يكون الاسلام اشتراكيا. 

فقد كانت تلك المرحلة مطية للتشكيك في سلامة الحكم، وحتى في صدق نواياه ومراميه، وفتحت بالمناسبة ثغرات تسربت منها أفكار ومواقف سرعان ما تحولت تدريجيا إلى رفض لمفاهيم الوطنية ولقدسية التاريخ، ونشأ جيل خفتت في نفسه قيم الإسلام وفقد تدريجيا القيم الوطنية التي تجردت من قدسيتها وأوحي إليه أن الإسلام غيرما يحياه ويعيشه، فتعرضت يذلك دولة الجزائر بمؤسساتها المختلفة إلى هياكل منكرة، غير مرغوب فيها، حتى أصبحت هدفا للحرق والتخريب، تحالف ضدها من خابت آمالهم في بناء حكم على مبادئ الاسلام مع من ظلوا يتربصون  بالدولة الوطنية منذ نشأتها الأولى.. فذهب الأمن وساد العنف بدعم مزدوج يؤججه الحاقدون على الجزائر من  كلتا الطائفتين. 

ولكن لطف الله كان من الرأفة ماهيأ  للجزائر مخرجا  من نكبتها وظهر دستور 1996 يعالج الموضوع ويمهد لبعث الوعي الوطني المشبع بالإيمان وبالحس العميق اتجاه الشهداء الذين ضحوا من أجل أن يسترجع الشعب الجزائري وطنه ودولته ليشيدها ويبنيها لا ليكيد لها ويهدمها ويعرضها للنكبات. 

ظهر دستور 1996 ليؤسس مجلسا اسلاميا أعلى يتولى مسؤولية شرح مفاهيم الاسلام الصحيحة البناءة ويدافع عن أصالتها في تراث الشعب ويدعو إلى الاسلام الذي يجمع ولا يشتت ويبني ولا يهدم، ويقنع ولايرغم، ويوقظ ولايستغل. 

وبعد سنتين من صدور الدستور نصب المجلس الإسلامي الأعلى بهيئة من خيرة المثقفين الوطنيين المؤمنين بخدمة الوطن بجميع مكوناته وبكل ما يبتغيه الاسلام للأمة المؤمنة. 

وهكذا كانت أول تظاهرة نظمها المجلس الإسلامي الأعلى بتوجيه من رئيس الجمهورية في عهد رئيسه الأول المرحوم الدكتور المجاهد عبد المجيد مزيان، تناولت موضوع المرأة دورها وحقوقها وواجباتها، فأحدث بذلك هزة في قلب المجتمع الذي استفاق على امكانات المرأة الجزائرية التي أخذت قسطا محترما من التعليم، وبرهنت عن جدارتها في المهام التي  أنبطت بها ، وبصفة خاصة في مجال التعليم والقضاء وفي مجال الصحة وكثير من الخدمات الاجتماعية. وإذ لم يمهل الأجل الدكتور عبد المجيد مزيان فما مكث على رأس المجلس إلا سنتين…. وتلاه الدكتور الشيخ بوعمران رحمه الله، الذي بدأ نشاطه بتلك التظاهرة الثقافية العالمية التي تناولت شخصية القديس أوغسطين قطب الديانة المسيحية قبل الاسلام. وحاضر فيها علماء ذووا سمعة عالمية من أوروبا وأمريكا فعبر فخامة الرئيس بعملهم هذا وبما كانوا يحوزونه من سمعة في الأوساط الثقافية، العالمية عن خطته في تحويل نظرة العالم إلى الجزائر التي كانت تعاني من العزلة التي فرضت عليها ظلما خلال العشرية السوداء وضراوة الارهاب القبيح. 

وفي هذا العهد شكل المجلس لجنة للفتوى ترأسها المرحوم الدكتور محمد الشريف قاهر، فبذلت جهدا مشكورا في إجابة حاجات المواطنين الذين كانوا يفضلون أن يبحثوا لما اشكل عليهم في الدين، يبحثوا عنه عند علماء الجزائر الناصحين من أمثال الدكتور قاهر رحمه الله واخوانه الذين كانوا يساعدونه وقد أدت هذه اللجنة خدمة جليلة في ميدان الفتوى. وذلك في وقت كان كثير من الجزائريين يبحثون عن الفتاوى الدينية لدى القنوات الأجنبية التي تجهل الظروف المحلية للمجتمع الجزائري، وكان بسبب ذلك  مفتوها لايهتدون إلى تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الموضوعية، ونتج عن ذلك أن فتاوى هذه القنوات كانت تظلل أكثر مما تنصح، وأحيانا كانت بعض القنوات يستغلها من جندوا لتغيير التدين الذي دأب عليه الجزائريون خلفا عن سلف منذ عهود الاسلام الأولى. 

نعم، في هذه الفترة العصيبة التي أفرغ فيها الدين من قدسيته وأصبح وسيلة للاستغلال والتخويف ومطية للتطرف والغلو فكرت الدولة بتوجيه دائما من رئيس الجمهورية وقررت إنشاء قناة القرآن الكريم. هذه القناة التي سدت كثيرا من العجز في موضوع الفتوى الشرعية والإرشاد الديني حيث تولى الفتيا فيها ثلة من علماء الجزائر الوطنيين المخلصين الذين ساروا على نهج سلفهم الصالح من علماء المجلس حين كان تابعا لوزارة الشؤون الدينية. أمثال الشيخ أحمد حماني والشيخ العباس بن الشيخ الحسين والشيخ عبد الرحمن شيبان وغيرهم من العلماء والمشايخ. فكانت فتاوى المجلس هي المرجع في الدين والحياة، وكان حضوره بارزا في سن القوانين وبخاصة ما تعلق منها بقانون الأسرة.  

وحين أغرق التأويل الفاسد للجهاد والخلافة، أغرق الجزائر في دوامة العنف والإرهاب كان على المجلس الإسلامي الأعلى أن ينتقل إلى هيئة وطنية دستورية مستقلة تحفظ  الإسلام من تأويل الغالين وشبهات المنحرفين وترد على المضللين وتصوب المفاهيم الخاطئة، وتفضح التصورات الضيقة. 

عشرون عاما من الوسطية والاعتدال ونشر قيم التسامح والتعايش والمحبة والدعوة إلى حوار الأديان والثقافات، فكان ملتقاه السنوي ورشة علمية مفتوحة لتناول قضايا الاجتهاد وقيم السلم والحوار و السعي نحو التربية الدينية و التعليم الاسلامي وإحياء مفاخر و اعمال علمائنا،وهي مضامين كتبه وكراساته المنشورة و ندواته العلمية 

عشرون عاما من انجازات المجلس الإسلامي الأعلى ضمن أكبر خدمة قدمها رئيس الجمهورية للإسلام بالأولوية التي أعطاها للقرآن الكريم تجسدت في أسبوع القرآن الكريم وفي الجائزة الدولية لحفظ القرآن وتجويده وتفسيره، وفي عهده نصبت شعيرة الزكاة التي ظهرت نجاعتها في محو الفقر وتشجيع الشباب على العمل المنتج كما اجتهد سيادته في تجسيد دعوة الدين للمصالحة و التعايش فكانت قرارا سياسيا واختيارا من روح تاريخ هذه الأمة وثورتها المباركة،  ونحن نسعى في مجلسنا إلى تعزيز قيم المصالحة اجتهادا وبحثا من خلال الملتقيات و المنشورات واستلهام ذلك من ميراثنا العقدي و الفقهي و الصوفي الذي يدعو إلى العدل و المحبة والخير وإصلاح ذات البين، وتلك هي مواطنة المصالحة التي تحقق السلم و السكينة،  وما فتئ رئيس الجمهورية حفظه الله يدعو في خطبه ورسائله إلى وسطية الإسلام وتسامحه والحفاظ على سنية مجتمعنا التي لا تكفر ولا تبدع ،لا تقصي ولا تصنف ، فعلماؤنا المخلصون الصادقون لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، ولا يضيقون ماهو واسع في المفهوم و المعنى .

 

عشرون عاما عاشها المجلس في كنف دولة ترعى وتساهم إلي جانب الخيرين من أبناء هذه الامة في بناء المساجد و المدارس القرآنية ومعاهد تكوين الأئمة، وأعظمها أثرا في الوطن وفي العالم ” جامع الجزائر ” مفخرة هذه الأمة وتجسيد محبتها للإسلام ونبيها عليه الصلاة و السلام، فما أعظم أن نبلغ العشرين في خدمة الإسلام وقلوبنا  تتلهف للصلاة قريبا في جامعها،  وقد عشنا ميلاده وتسييره ونحمد الله على هذه النعمة ونشيد بهمة و عزيمة فخامة رئيس الجمهورية في حرصه و متابعته لتأسيس هذه التحفة الحضارية المتميزة وما اعظمها من خدمة للدين و للوطن و الشهداء .

عشرون عاما مرت،  تجعلنا نحتفي بذكرى علماء  ومشايخ و مفكرين ضمهم هذا المجلس الموقر،منهم من توفاه الله راضيا مرضيا ومنهم من واصل معنا مجتهدا مؤمنا برسالة المجلس الإسلامي الأعلى الذي جمع من جديد نخبة من خيرة علماء الجزائر بتعدد الاختصاصات، كما تجمل بسيدتين جامعيتين تميزتا بالسبق في البحث العلمي و النشاط الاجتماعي  .

وإن هذا اليوم الاحتفائي ما هو إلا وقفة رمزية اتجاه من عملوا قبلنا ومن هم من لا يزالون يعملون، وهو في الحقيقة وفاء ديني ووطني وأخلاقي، وسوف نواصل بحول الله ماهو مطلوب منا اسلاميا ودستوريا وبهدي من توجيهات فخامة  رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتقليقة من أجل حماية شبابنا من التطرف و اليأس،  ومنع الضلال و الغلو و العنف إلى أن تسترجع بلادنا صورتها الإسلامية الناصعة وإلى أن يختفي ما يشوب الدين من تأويل الغلاة و المتعصبين. سواء كانوا من أبناء جلدتنا المظللين أو من أعدائه المستلبين الاسلامو فوبيين . نفعل ذلك ونحن مؤمنون ايمانا صادقا بوعد الله في كتابه العزيز: 

“وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ” النور الاية 55